الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)} وقوله سبحانه: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ} اختلف الناس في {التي هِيَ أَحْسَنُ}: فقالت فرقةٌ: هي لا إله إِلا اللَّه؛ وعلى هذا، ف «العباد»: جميعُ الخلق، وقال الجمهور {التي هِيَ أَحْسَنُ}: هي المحاورة الحَسَنة، بحسب معنى معنى، قال الحسن يقول: يَغْفِرُ اللَّه لك، يَرْحَمُكَ اللَّه وقوله: {لِّعِبَادِيَ} خاصُّ بالمؤمنين، قالت فرقة: أمر اللَّه المؤمنين فيما بينهم بُحْسن الأدب، وخَفْضِ الجناحِ، وإلانة القَوْلَ، واطِّراحِ نَزَعاتِ الشيطان، ومعنى النَّزْغُ: حركاتُ الشيطانِ بُسْرعة؛ ليوجب فساداً، وعداوةُ الشيطان البيِّنة: هي من قصة آدم عليه السلام، فما بعد، وقالَتْ فرقة: إِنما أمر اللَّه في هذه الآية المؤمنين بإِلانة القوْلِ للمشركين بمكَّة أيام المُهَادنة، ثم نُسِخَتْ بآية السيف. وقوله سبحانه: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ}: يقوِّي هذا التأويل؛ إِذ هو مخاطبةٌ لكفَّار مكَّة؛ بدليل قوله: {وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} فكأن اللَّه عزَّ وجل أمر المؤمنين ألاَّ يخاشنوا الكُفَّار في الدين، ثم قال للكفَّار إِنه أعلم بهم ورجَّاهم وخوفهم، ومعنى {يَرْحَمْكُمْ} بالتوبة عليكم من الكُفْر؛ قاله ابن جُرَيْج وغيره. وقوله سبحانه: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} قرأ الجمهور: «زَبُوراً» بفتح الزاي، وهو فَعُولٌ بمعنى مَفْعُولٍ، وهو قليلٌ؛ لم يَجِئ إلا في قَدُوعِ وَرَكُوبٍ وَحَلُوب، وقرأ حمزة: بَضَمِّ الزاي قال قتادة: زبور دَاوُدَ مَواعظُ ودعاءٌ، وليس فيه حلالٌ ولا حرامٌ.
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)} وقوله سبحانه: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} هذه الآيةُ ليستُ في عبدة الأصنام، وإِنما هي في عَبَدَةِ مَنْ يعقل، كعيسَى وأمِّه وعُزَيْرٍ وغيرهم. قاله ابن عباس، فلا يملكُونَ كَشْفَ الضرِّ ولا تحويله، ثم أخبر تعالى، أنَّ هؤلاء المعبودين يَطْلُبُون التقرُّب إِلى اللَّه والتزلُّف إِليه، وأنَّ هذه حقيقة حالهِمْ. وقوله سبحانه: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ...} الآية: قال عزُّ الدين بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، في اختصاره ل «رِعَايَة المُحَاسِبِيِّ»: الخوفُ والرجاءُ: وسيلَتَانِ إِلى فعْلِ الواجباتِ والمندوباتِ، وتركِ المحرَّمات والمكروهاتِ، ولكنْ لا بدَّ من الإِكباب على استحضار ذلك واستدامته في أكثر الأوقات؛ حتى يصير الثواب والعقاب نُصُبَ عينيه، فَيَحُثَّاه على فعْلِ الطاعات، وتركِ المخالفات، ولَنْ يحصُلَ له ذلك إِلا بتَفْريغ القَلْبِ مِنْ كل شيء سِوَى ما يفكر فيه، أو يعينه على الفِكْرِ، وقد مُثِّلَ القلْبُ المريضُ بالشهوات بالثوْبِ المتَّسِخِ الذي لا تَزُولُ أدرانه إِلا بتَكْرير غَسْله وحَتِّه وقَرْضِهِ، انتهى. وباقي الآية بيِّن. وقوله سبحانه: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا...} الآية: أخبر سبحانه في هذه الآية أنَّه ليس مدينَةٌ من المُدُنِ إِلا هي هَالِكَة قبل يوم القيامة بالموتِ والفناءِ، هذا مع السَّلامة وأخْذِها جُزْءاً جُزْءاً، أو هي معذَّبة مأخوذةٌ مرةً واحدةً. وقوله: {فِي الكتاب}: يريد في سابقِ القَضَاء، وما خَطَّه القلم في اللوْحِ المحفوظ، «والمسطور» المكتوب أسطاراً.
{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)} وقوله سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالأيات...} الآية: هذه العبارة في {مَنَعَنَا} هي على ظاهر ما تَفْهَمُ العربُ، فسمى سبحانه سبْقَ قضائِهِ بتَكْذيب مَنْ كذَّب وتعذيبِهِ- مَنْعاً؛ وسبب هذه الآية أن قريشاً اقترحوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَن يجعل لهم الصَّفَا ذَهَباً، ونحو هذا من الاقتراحات، فأوحى اللَّه إِلى نبيه عليه السلام: إِن شئْتَ أفعلُ لهم ذلك، ثم إِن لم يؤمنوا، عاجَلْتُهُمْ بالعقوبة، وإِن شئْتَ، استأْنَيْتُ بهم؛ عسى أن أَجْتَبِيَ منهم مؤمنين، فقال عليه السلام: بَلِ استأن بِهِمْ يَا رَبِّ، فأخبر سبحانه في هذه الآية؛ أنه لم يمنعه جلَّ وعلاَ من إِرسال الآياتِ المقْتَرَحةِ إِلا الاستئناء؛ إِذ قد سلفت عادته سبحانه بمعاجلة الأمم الذين جاءتهم الآيات المقترحة، فلم يؤمنوا كثمودَ وغيرهم. قال الزَّجَّاجِ: أخبر تعالى أنَّ موعد كفار هذه الأمة الساعة؛ بقوله سبحانه: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46] فهذه الآية تنظُرُ إِلى ذلك، و{مُبْصِرَةً} أي: ذاتُ إِبصار وهي عبارةٌ عن بيان أمْر الناقة، ووضوح إعجازها، وقوله: {فَظَلَمُواْ بِهَا}، أي: بِعَقْرِها، وبالكُفْر في أمرهَا، ثم أخبر تعالى أنه إِنما يرسل بالآياتِ غيرِ المُقْتَرَحةِ؛ تخويفاً للعباد، وهي آيات معها إِمهال، فمن ذلك الكُسْوفُ والرعْدُ والزلزلةُ وقَوْسُ قُزَحَ، وغَيْرُ ذلك، وآيات اللَّه المعَتَبرُ بها ثلاثَةُ أقْسَامٍ: فقسمٌ عامٌّ في كل شيء، إِذ حيث ما وضَعْتَ نَظَرك، وجدتَّ آيةً، وهنا فِكْرة للعلماء، وقِسْمٌ معتاد غالباً؛ كالكسوف ونحوه، وهنا فِكْرَة الجَهَلَةِ، وقسْمٌ خَارِقٌ للعادة، وقد انقضى بانقضاء النبوَّة، وإِنما يعتبر به، توهُّماً لما سلف منه.
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} وقوله سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس} هذه الآيةُ إِخبار للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه محفوظٌ من الكَفَرة آمِنٌ، أي: فَلْتُبْلِّغْ رسالةَ ربِّك، ولا تتهَّيب أحداً من المخلوقين؛ قاله الطبريُّ؛ ونحوه للحَسَن والسُّدِّيِّ. وقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التي أريناك...} الآية: الجمهورُ أنَّ هذه الرؤيا رْؤَيا عينٍ ويقظةٍ، وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما كان صَبِيحَةَ الإِسراء، وأخبر بما رأى في تلك الليلة من العجائب، قال الكفَّار: إِن هذا لعجب، واستبعدوا ذلك؛ فافتتن بهذا قومٌ من ضَعَفَةِ المسلمين؛ فارتدوا؛ وشقَّ ذلك على النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فنزلَتْ هذه الآية؛ فعلى هذا يحسُنْ أنْ يكون معنى قوله: {أَحَاطَ بالناس} في إِضلالهم وهدايتهم، أي: فلا تهتمَّ، يا محمَّد، بكُفْر من كفر، وقال ابن عباس: الرؤيا في هذه الآية هي رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه يدخُلُ مكَّة، فعجَّل في سنة الحُدَيْبِيَة، فَصُدَّ فافتتن المسلمون لذلك، يعني بعَضهم، وليس بفتْنَة كُفْر. وقوله: {والشجرة الملعونة فِي القرآن} معطوفة على قوله: {الرءيا}، أي جعلنا الرؤيا والشَّجرةَ فتنةً {والشجرة الملعونة}؛ في قول الجمهورِ: هي شجرةٌ الزَّقُّوم، وذلك أن أمرها لما نَزَلَ في سورة «والصَّافَّات» قال أبو جَهْل وغيره: هذا محمَّد يتوعَّدكم بنَارٍ تَحْرِقُ الحِجَارة، ثم يزعُمُ أنها تُنْبِتُ الشجَرَ، والنار تأكلُ الشجَر، وما نعرفُ الزَّقُّوم إِلا التمر بالزُّبْد، ثم أحضر تمراً وزُبْداً، وقال لأصحابه، تَزقَّمُوا، فافتتن أيضاً بهذه المقالةِ بعْضُ الضعفاء، قال الطبري عن ابن عباس: أن الشجرة الملعونَةَ، يرُيد المعلونَ أُكُلُهَا؛ لأنها لم يَجْرِ لها ذكر. قال * ع * ويصحُّ أَن يريد الملعونَةِ هنا، فأكَّد الأمر بقوله: {فِي القرآن}، وقالت فرقة: {الملعونة}، أي: المُبْعَدَة المكْروهة، وهذا قريب في المعنى من الذي قبله، ولا شك أن ما ينبت في أصْل الجحيمِ هو في نهاية البُعْدِ من رحمة الله سبحانه. وقوله سبحانه: {وَنُخَوِّفُهُمْ} يريد كفَّار مكَّة. وقوله: {أَرَءَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ} الكافُ في «أَرَأَيْتَكَ» هي كافُ خطابٍ ومبالغةٍ في التنبّه، لا موضعَ لها من الإِعراب، فهي زائدةٌ، ومعنى «أَرأَيْتَ»: أتأملت ونحوه، كأنَّ المخاطِبَ بها ينبِّه المخاطَبَ ليستَجْمِعَ لما ينصُّه بعْدُ. وقوله: {لأَحْتَنِكَنَّ} معناه لأُمِيلَنَّ ولأَجُرَّنَّ، وهو مأخوذ من تَحْنِيكِ الدابَّة، وهو أن يشدَّ على حَنَكِها بحَبْل أو غيره، فتقاد، والسَّنةُ تَحْتَنِكُ المالَ، أي: تجتره، وقال الطبري «لأحتنكَنَّ» معناه لأستأصلنَّ، وعن ابن عباس: لأستولين، وقال ابن زيد: لأُضِلَّنَّ. قال * ع * وهذا بدلُ اللفظ، لا تفسير. وقوله: {اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ}، وما بعده من الأوامر: هي صيغةُ «افْعَلْ» بمعنى التهديد، كقوله تعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] «الموفور»، المُكْمَل، {واستفزز} معناه: استخف واخدع، وقوله: {بِصَوْتِكَ}: قيل: هو الغِنَاء والمزامير والمَلاَهي، لأنها أصواتٌ كلُّها مختصة بالمعاصي، فهي مضافةٌ إِلى الشيطانِ، قاله مجاهد، وقيل: بدعائك إِياهم إِلى طاعتك. قال ابن عباس: صوته دعاءُ كُلِّ مَنْ دعا إِلى معصيةِ اللَّه، والصوابُ أنْ يكون الصوتُ يعمُّ جميع ذلك. وقوله: {وَأَجْلِبْ}، أي: هوِّل، و«الجَلَبة» الصوتُ الكثير المختلِطُ الهائل. وقوله: {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} قيل: هذا مجازٌ واستعارة بمعنى اسع سعيك، وابلغ جهدك، وقيل: حقيقة وإنَّ له خيلاً ورَجُلاً من الجنِّ، قاله قتادة، وقيل: المراد فرسان الناس، ورجالتهم المتصرِّفون في الباطل، فإِنهم كلهم أعوان لإِبليس على غيرهم؛ قاله مجاهد. {وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد} عامٌّ لكل معصية يصنعها الناس بالمال، ولكلِّ ما يصنع في أمر الذرِّية من المعاصي، كالإيلاد بالزنا وكتسميتهم عَبْدَ شَمْس، وأبا الكُوَيْفِر، وعَبْدَ الحارِثِ، وكلَّ اسْمٍ مكروه؛ ومن ذلك: وأد البنات؛ ومن ذلك: صبغهم في أديان الكفر، وغير هذا، وما أدخله النَّقَّاش من وطْء الجنِّ، وأنه يُحْبِلُ المرأة من الإِنسِ، فضعيفٌ كلُّه. * ت *: أما ما ذكره من الحبل، فلا شك في ضَعْفه، وفسادِ قولِ ناقله، ولم أر في ذلك حديثاً لا صحيحاً ولا سقيماً، ولو أمكن أنْ يكون الحَبَلُ من الجنِّ، كما زعم ناقله، لكان ذلك شُبْهَةً يدرأُ بها الحَدُّ عمَّن ظهر بها حَبَلٌ من النساء اللواتِي لا أزواج لهنَّ؛ لاحتمال أنْ يكون حَبَلُها من الجنِّ؛ كما زعم هذا القائلُ، وهو باطلٌ، وأما ما ذكره من الوطء، فقد قيل ذلك؛ وظواهر الأحاديث تدلُّ عليه، وقد خرَّج البخاريُّ ومسلم وأبو داود والترمذيُّ والنسائي وابن ماجه، عن ابن عبَّاس، قال: قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ إِذَا أرَادَ أنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وجَنّب الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ في ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبداً " فظاهر قوله عليه السلام: «اللَّهُمَّ، جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبَ الشَّيْطَانَ مَا رَزقتنا»- يقتضي أنَّ لهذا اللعين مشاركةً مَّا في هذا الشأنِ، وقد سمعتُ من شيخنا أبي الحسن عليِّ بن عِثمانَ الزَّواويِّ المَانْجَلاَتِيِّ سَيِّدِ علماء بِجَايَةَ في وقَتْه، قال: حدَّثني بعضُ الناس ممَّن يوثَقُ به يخبر عن زوجته؛ أنها تجدُ هذا الأمْرَ، قال المخبِرُ: وأصْغَيْتُ إِلى ما أخبرت به الزوجَةُ، فسمعتُ حِسَّ ذلك الشئ، واللَّه أعلم.
{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)} وقوله سبحانه: {رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِى لَكُمُ الفلك فِي البحر}: إِزجاء الفُلْك: سَوْقه بالريحِ الليِّنة والمجاذيفِ، و{لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} لفظ يعمُّ التَّجْر وغيره، وهذه الآية المباركَةُ توقيفٌ على آلاء اللَّه وفَضْلِهِ ورحمته بعباده، و{الضر}، هنا لفظ يعمُّ الغرق وغيره، وأهوال حالات البحر واضطرابه وتموجه، و{ضَلَّ} معناه تلف وفُقِدَ. وقوله: {أَعْرَضْتُمْ}، أي: فلم تفكِّروا في جميل صنع اللَّه بكم. وقوله: {كَفُورًا} أي: بالنعم و{الإنسان}؛ هنا: الجنس، «والحاصب»: العارض الرامي بالبَرَدِ والحجارةِ؛ ومنه الحاصب الذي أصَابَ قوْمَ لوطٍ، «والحَصْبُ» الرمْيُ بالحَصْبَاء، «والقاصف»: الذي يَكْسِر كلَّ ما يَلْقى ويقْصِفُه، «وتارةً» معناه: مرَّة أخرى، «والتبيع» الذي يطلب ثأْراً أو دَيْناً؛ ومنْ هذه اللفظة قوله صلى الله عليه وسلم: " إِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ على مَلِيٍّ فَلْيُتْبِعْ " فالمعنى: لا تجدون مَنْ يَتَتَبَّع فعلنا بكم، ويطلب نُصْرَتكم وهذه الآيات أنوارُهَا واضحةٌ للمهتدين.
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)} وقوله جلَّت عظمته {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...} الآية: عدَّد اللَّه سبحانه على بني آدم ما خصَّهم به من المزايا مِنْ بين سائر الحيوان، ومن أفضل ما أكْرَم به الآدِميَّ العقْلُ الذي به يعرفُ اللَّه تعالى، ويفهم كلامه، ويوصِّل إِلى نعيمه. وقوله سبحانه: {على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا} المراد ب«الكثير المفضولِ» الحيوانُ والجنُّ، وأما الملائكة، فهم الخارجون عن الكثير المفضول، وليس في الآية ما يقتضي أن الملائكة أفضَلُ من الإِنسِ؛ كما زعمت فرقة؛ بل الأمر محتملٌ أنْ يكونوا أفضَلَ من الإِنس، ويحتمل التساوي. وقوله سبحانه: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} يحتمل أن يريد باسْمِ إِمامهم، فيقول: يا أمة محمَّد، ويا أتباع فِرْعَوْنَ، ونحو هذا، ويحتمل أن يريد: مع إِمامهم أنْ تجيء كل أمَّة معها إِمامها من هادٍ ومضلٍّ، واختلف في «الإمام»، فقال ابن عباس والحسن: كتابهم الذي فيه أعمالهم، وقال قتادة ومجاهد: نبيهم، وقال ابن زيد: كتابهم الذي نَزَلَ عليهم، وقالت فرقة: متَّبَعُهُمْ مِنْ هادٍ أو مُضِلٍّ، ولفظة «الإِمام» تعمُّ هذا كلَّه. وقوله سبحانه: {فَمَنْ أُوتِيَ كتابه بِيَمِينِهِ}: حقيقةٌ في أن في القيامة صحائفَ تتطاير، وتوضعُ في الأيْمَان لأهل الأَيْمانَ، وفي الشمائل لأهل الكُفْر والخذلان، وتوضع في أيمان المذْنِبِين الذين يَنْفُذُ عليهم الوعيد، فيستفيدون منها أنهم غَيْرُ مخلَّدين في النار. وقوله سبحانه: {يَقْرَءُونَ كتابهم}: عبارةٌ عن السرور بها، أي: يردِّدونها ويتأمَّلونها. وقوله سبحانه: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي: ولا أقلَّ، وقوله سبحانه: {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى}: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الإِشارة ب {هذه} إلى الدنيا، أي: مَنْ كان في هذه الدارِ أعمى عن النظرِ في آيات اللَّه وعِبَرِه، والإِيمان بأنبيائه، فهو في الآخرة أعمى؛ على معنى أنه حيرانُ لا يتوجَّه لصوابٍ ولا يلوحُ له نُجْحٌ. قال مجاهد: فهو في الآخرةِ أعمى عن حُجَّته، ويحتمل أنْ يكون صفةَ تفضيلٍ، أي: أشدُّ عمًى وحيرةً؛ لأنه قد باشر الخَيْبة ورأى مخايل العذاب؛ ويقوِّي هذا التَّأويل قوله، عطفاً عليه: {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} الذي هو «أَفْعَلُ مِنْ كَذَا» والعمى في هذه الآية هو عَمَى القلب، وقولُ سِيَبَوَيْه: لا يقال أعمى مِنْ كَذَا، إِنما هو في عمى العينِ الذي لا تفاضُلَ فيه، وأما في عمى القْلبِ، فيقال ذلك؛ لأنه يقع فيه التفاضل * ت *: وكذا قال * ص * وقوله سبحانه: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ...} الآية: الضمير في قوله: {كَادُواْ} هو لقريشٍ، وقيل: لثقيفٍ، فأما القريش، فقال ابن جبير ومجاهد: نزلَتِ الآية، لأنهم قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ نَدَعُكَ تستلمُ الحَجَرَ الأسْوَدَ حتى تَمَسَّ أيضاً أوثانَنَا على معنى التشرُّع، وقال ابن إسحاق وغيره: إِنهم اجتمعوا إليه ليلةً، فعظَّموه، وقالوا له: أنْتَ سيِّدنا، ولكنْ أَقْبِلْ على بعض أمْرنا، ونُقْبِلُ على بعض أمرك، فنزلَتِ الآية في ذلك. * ع *: فهي في معنى قوله: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] وأما لثقيفٍ، فقال ابن عباس وغيره: لأنهم طلبوا من رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنْ يؤخرهم بعد إِسلامهم سَنَةً يعبدون فيها اللاَّتَ، وقالوا: إِنما نريد أن نأخذ ما يُهْدَى لها ولكن إنْ خفْتَ أنْ تنكر ذلك عليك العربُ، فقل: أَوْحَى اللَّهُ ذلك إِلَيَّ، فنزلَتِ الآية في ذلك. * ت *: واللَّه أعلم بصحَّة هذه التأويلاتِ، وقد تقدَّم ما يجبُ اعتقاده في حَقِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فالتزمه تُفْلِحْ. وقوله: {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً}: توقيفٌ على ما نجاه اللَّه منه من مُخَالَّةِ الكفَّار، والولايةِ لهم.
{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} وقوله سبحانه: {وَلَوْلاَ أَن ثبتناك...} الآية: تعديدُ نعمه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وروي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما نزلَتْ هذه الآيةُ، قال: " اللَّهُمَّ، لاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عينٍ " وقرأ الجمهور (تركن) بفتح الكاف، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يركَنْ، لكنَّه كاد بَحسَب هَمِّه بموافقتهم؛ طمعاً منه في استئلافهم، وذهب ابن الأنباريِّ إِلى أن معنى الآية: لقد كادوا أن يخبروا عنْكَ أنَّك ركَنْتَ ونحو هذا؛ ذهب في ذلك إلى نفْي الهمِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فحمَّل اللفظ ما لا يحتملُ؛ وقوله: {شَيْئًا قَلِيلاً} يبطلُ ذلك. * ت *: وجزى اللَّه ابنَ الأنباريِّ خيراً، وإن تنزيه سائر الأنبياء لواجبٌ، فكيف بسيِّد ولد آدم صلى الله عليه وعليهم أجمعين. قال أبو الفَضْل عياضٌ في «الشِّفَا»: قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً}: قال بعض المتكلِّمين: عاتب اللَّه تعالى نبيَّنا عليه السلام قبل وقوع ما يوجبُ العتاب؛ ليكون بذلك أشدَّ انتهاءً ومحافظةً لشرائط المحبَّة، وهذه غاية العناية، ثم انظُرْ كيف بدأ بثباته وسلامته قبل ذِكْر ما عاتبه عليه، وخيف أنْ يركن إِليه، وفي أثناء عتبه بَرَاءَتُه، وفي طَيِّ تخويفه تأمينُه. قال عياضٌ رحمه الله: ويجبُ على المؤمن المجاهِدِ نفسَهُ الرائِضِ بزمامِ الشريعةِ خُلُقَهُ؛ أن يتأدَّب بآداب القرآن في قوله وفعله ومعاطاته ومحاوراته فهو عنصر المعارف الحقيقة، وروضَةُ الآداب الدينية والدنيوية انتهى. قال * ع *: وهذا الهمُّ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِنما كان خَطْرة مما لا يمكِنُ دفعه، ولذلك قيل: {كِدتَّ} وهي تعطي أنه لم يقعْ ركونٌ، ثم قيل: {شَيْئًا قَلِيلاً}؛ إِذ كانت المقاربة التي تضمنتها {كِدتَّ} قليلةً خطرةً لم تتأكَّد في النفْس. وقوله: {إِذًا لأذقناك...} الآية: يبطل أيضاً ما ذهب إليه ابنُ الأنباريِّ. * ت *: وما ذكره * ع * رحمه الله تعالى من البطلان لا يصحُّ، وما قدَّمناه عن عياضٍ حسنٌ؛ فتأمَّله. وقوله: {ضِعْفَ الحياة}: قال ابن عباس وغيره: يريد ضِعْفَ عذاب الحياةِ، وضِعْفَ عذاب الممات.
{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)} وقوله سبحانه: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا...} الآية: قال الحَضْرَمِيُّ: الضمير في «كادوا» ليهود المدينة وناحيتها، ذهبوا إِلى المَكْرِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: إِن هذه الأرضَ ليست بأرض الأنبياء، فإِن كنت نبيًّا، فاخرج إِلى الشام، فإِنها أرض الأنبياء، فنزلَت الآية، وأخبر سبحانه أن رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم لو خَرَج، لم يلبثوا بعده إِلا قليلاً، وقالت فرقة: الضمير لقريشٍ، قال ابن عباس: وقد وقع استفزازهم وإِخراجهم له، فلم يلبثوا خلفه إِلا قليلاً يومَ بَدَرْ. وقال مجاهد: ذهبَتْ قريش إلى هذا، ولكنه لم يقعْ منها؛ لأنه لما أراد اللَّه سبحانه استبقاء قُرَيْش، وألاَّ يستأصلها، أذِنَ لرسولِ في الهجْرة، فخرج من الأرض بإِذن اللَّه، لا بَقْهر قريشٍ، واسْتُبْقِيَتْ قريشٌ؛ لِيُسِلمَ منها ومِنْ أعقابها مَنْ أسْلَم. * ت *: قال * ص *: قوله {لاَّ يَلْبَثُونَ} جوابُ قسَمٍ محذوفٍ، أي: واللَّهِ، إِن استُفْزِزْتَ، فخرجْتَ، لا يلبثون خلفك إِلا قليلاً. انتهى. وقوله سبحانه: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا...} الآية: معنى الآية الإِخبار أن سنة اللَّه تعالى في الأمم الخالية وعادته أنها إذا أخْرجَتْ نبيَّها من بين أظهرها، نالها العذاب، واستأصلها، فلم تلبثْ خلفه إلا قليلاً.
{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} وقوله سبحانه: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس...} الآية: إِجماع المفسِّرين على أنَّ الإِشارة هنا إلى الصلوات المفروضة، والجمهورُ أنَّ دلوك الشمس زوالُها والإِشارةُ إِلى الظهر والعصر، و{غَسَقِ اليل}: أشير به إِلى المغرب والعشاء، و{وَقُرْآنَ الفجر}: يريد به صلاةَ الصبح، فالآية تعم جميعَ الصلواتِ، «والدلوكُ»؛ في اللغة: هو الميلُ، فأول الدلوكِ هو الزوالُ، وآخره هو الغروبُ، قال أبو حيان: واللام في {لِدُلُوكِ الشمس}: للظرفية بمعنى بَعْد انتهى، و{غَسَقِ اليل}: اجتماعه وتكاثُف ظلمته، وعَبَّر عن صلاة الصبْحِ خاصَّة بالقرآن، لأن القرآن هو عظمها؛ إِذ قراءتها طويلةٌ مجهورٌ بها. وقوله سبحانه: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} معناه: يشهده حَفَظَة النهار وحَفَظَة الليل من الملائكة؛ حَسْبما ورد في الحديث الصَّحيح: " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلاَئِكَةٌ بالنَّهَارِ؛ فَيَجْتَمِعُونَ في صَلاَةِ الصُّبْحِ وَصَلاَةِ العَصْرِ... " الحديث بطوله، وفي «مسند البَزَّار» عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ قال: " إنَّ أَفْضَلَ الصَّلَواتِ صَلاَةُ الصُّبْحِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، في جَمَاعَةَ، ومَا أَحْسِبُ شَاهِدَهَا مِنْكُمْ إِلاَّ مَغْفُور له " انتهى من «الكوكب الدري».
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} {وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ} «مِنْ» للتبعيض، التقدير: ووقتاً مِنَ الليلِ، أيَّ: قم وقتاً، والضمير في «به» عائدٌ على هذا المقدَّر، ويحتملُ أن يعود على القرآن، و«تهجَّد» معناه: اطرح الهجودَ عَنْك، «والهُجُود»: النوم، المعنى: ووقتاً من الليل اسهر به في صلاةٍ وقراءة، وقال علقمة وغيره: التهجُّد بعد نومة، وقال الحَجَّاج بن عمرو: إِنما التهجُّد بعد رقدة، وقال الحسن: التهجُّد ما كان بعد العشاء الآخرة. وقوله: {نَافِلَةً لَّكَ} قال ابن عباس: معناه: زيادةً لك في الفَرْضٍ، قال: وكان قيامُ الليل فرضاً على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهدٌ: إِنما هي نافلة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مغفورٌ له، والناس يحطُّون بمثل ذلك خطاياهم، يعني: ويجبرون بها فرائضهم؛ حَسْبما ورد في الحديثِ، قال صاحب «المدخل»، وهو أبو عبد الله بن الحَاجِّ؛ وقد قالوا: إِنَّ مَنْ كان يتفلَّت منه القرآن، فليقُمْ به في الليْلَ، فإن ذلك يثبته له ببركة امتثال السُّنَّة سِيَمَا الثُّلُثُ الأخير من الليلِ؛ لما ورد في ذلك من البركَات والخَيْرَات، وفي قيامِ اللَّيْلِ من الفوائد جملةٌ، فلا ينبغي لطالب العلْم أنْ يفوته منْها شَيْءٌ. فمنها: أنه يحطُّ الذنوب؛ كما يحطُّ الريحُ العاصفُ الوَرَقَ اليابس من الشجرة. الثاني: أنه ينوِّر القلب. الثالث: أنه يحسِّن الوجه. الرابع: أنه يذهب الكسل، وينشِّط البدن. الخامس: أن موضعه تراه الملائكَة من السماء؛ كما يتراءى الكوكب الدُّرِّيُّ لنا في السماءِ، وقد روى الترمذيُّ عن أبي أمامة؛ أن رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: " عَلْيُكُمْ بِقَيِامِ اللَّيْلِ، فإِنَّهُ مِنْ دأْبِ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلى اللَّهِ تعالى، ومَنْهَاةٌ عَنِ الآثَامِ، وتَكْفِيرٌ للسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ للِدَّاءِ عَنِ الجَسَدِ " وروى أبو داود في «سننه» عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاصِ، قال: قَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آياتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ، ومَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، ومَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةِ، كُتِبَ مِنَ المُقَنْطِرِين " انتهى من «المدخل». وقوله سبحانه: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا}: عِدَةٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ لنبيِّه، وهو أمر الشَّفاعة الذي يتدافَعُه الأنبياء حتى ينتهي إِليه صلى الله عليه وسلم، والحديث بطوله في البخاريِّ ومسلمٍ. قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه»: واختلف في وَجْهِ كوْنِ قيامِ الليْلِ سَبَباً للمقامِ المْحُمودِ؛ على قَوْلين للعلماء. أحدهما: أن البارِي تعالى يجعلُ ما يشاء مِنْ فضله سبباً لفضله من غير معرفةٍ لنا بَوْجهِ الحكمة. الثاني: أنَّ قيام الليل فيه الخَلْوَة بالباري تعالى، والمناجاة معه دون الناسِ، فيعطى الخَلْوة به ومناجاتَه في القيامةِ، فيكون مقاماً محموداً، ويتفاضل فيه الخَلْق؛ بحسب درجاتهم، وأجلُّهم فيه درجة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، فيعطى من المحامدِ ما لم يعطَ أحدٌ، ويَشْفَعُ فَيُشَفَّع. انتهى. وقوله سبحانه: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ...} الآية: ظاهر الآية: والأحْسَنُ أن يكون دعا عليه السلام في أن يحسِّن اللَّه حالته في كلِّ ما يتناول من الأمور ويحاولُ من الأسفار والأعمال، وينتظر من تصرُّف المقادير في المَوْت والحياة، فهي على أتمِّ عمومٍ، معناه: ربِّ، أصْلِحْ لي وِرْدِي في كلِّ الأمور، وَصَدَري. وذهب المفسِّرون إِلى تخصيص اللفْظِ، فقال ابن عبَّاس وغيره: أدْخِلْنِي المدينة، وأخرجني من مكَّة، وقال ابن عباس أيضاً: الإِدخال بالمَوْت في القبرِ، والإِخراج: البعث، وقيل غير هذا، وما قدَّمت من العموم التَّامِّ الذي يتناول هذا كلَّه أصوبُ، «والصِّدق»؛ هنا صفة تقتضي رفْعَ المذامِّ واستيعاب المَدْح، {واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا} قال مجاهدٌ: يعني حجَّةً تنصرني بها على الكفَّار. وقوله سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الحق...} الآية: قال قتادة: {الحق} القُرآن، و{الباطل} الشيطان. وقالت فرقةٌ: {الحق} الإِيمان، و{الباطل}: الكُفْران، وقيل غير هذا، والصواب تعميمُ اللفظ بالغايةِ المُمْكنة؛ فيكون التفسيرُ: جَاءَ الشرع بجميع ما انطوى فيه، وزَهَق الكُفْر بجميع ما انطوى فيه، وهذه الآية نزَلْت بمكَّة، وكان يستشهد بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فتحِ مكَّة وقْتَ طعنه الأصنام وسقوطَها لطَعْنه إِياها بالمِخْصَرَة.
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)} وقوله سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ...} الآية: أي شفاءٌ بحسب إِزالته للرَّيْب، وكشفه غطاء القَلْب، وشفاءٌ أيضاً من الأمراض بالرقى والتعويذِ ونحوه. وقوله سبحانه: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}: يحتمل أن يكون {الإنسان} عامَّا للجنْسِ، فالكافرُ يبالغ في الإِعراض، والعاصي يأخذ بخطٍّ منه و(نَأَى) أي: بَعُد، {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ}، أي: على ما يليق به، قال ابن عباس: {على شَاكِلَتِهِ} معناه: على ناحيته، وقال قتادة: معناه: على ناحيته وعلى ما ينوي. وقوله سبحانه: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً} توعُّد بيِّن.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)} وقوله سبحانه: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح} روى ابن مسعود أن اليهود قال بعضُهم لبعْض: سَلُوا محمداً عن الرُّوحِ فإِن أجاب فيه، عرفْتم أنه ليس بنبي. قال * ع *: وذلك أنه كان عندهم في التوراة؛ أَن الروح ممَّا انفرد اللَّه بعلْمه، ولا يَطَّلع عليه أحَدٌ من عباده، فسألوه، فنزلَتِ الآية. وقيل: إن الآية مكِّية، والسائلون هم قريشٌ، بإِشارة اليهودِ، واختلف الناس في الرُّوح المسؤول عَنْه، أيُّ رُوحٍ هو؟ فقال الجمهُور: وقع السؤال عن الأرواحِ التي في الأشخاصِ الحيوانيَّة ما هي، فالرُّوح: اسم جنسٍ على هذا، وهذا هو الصوابُ، وهو المُشِكْل الذي لا تَفْسِيرَ له. وقوله سبحانه: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} يحتملُ أن يريد أنَّ الرُّوح مِنْ جملة أمور اللَّه التي استأثر سبحانه بعلْمها، وهي إِضافةُ خَلْقٍ إِلى خَالِقٍ، قال ابنُ رَاشِدٍ في «مرقبته»: أخبرني شيخي شهابُ الدِّينِ القَرِافِيُّ عن ابْنِ دَقِيقِ العِيد؛ أنَهَ رأى كتاباً لبعض الحكماءِ في حقيقة النفْسِ، وفيه ثَلاَثُمِائَةِ قولٍ، قال رحمه اللَّه: وكثرُة الخلافِ تؤذنُ بكثرة الجهالاتِ، ثم علماءُ الإِسلام اختلفوا في جوازِ الخَوْضِ فيها على قولَيْن، ولكلٍّ حُجَجٌ يطُولُ بنا سَرْدُها، ثم القائلون بالجوازِ اختلفوا، هَلْ هي عَرَضٌ أو جوهرٌ، أو ليستْ بجوهرٍ ولا عرضٍ، ولا توصَفُ بأنها داخلُ الجسمِ ولا خارجُه، وإِليه ميل الإِمام أبي حامد وغيره، والذي عليه المحقِّقون من المتأخِّرين أنها جسْمٌ نوارنيٌّ شفَّافٌ سارٍ في الجسْمِ سَرَيانَ النارِ في الفَحْم؛ والدليلُ على أنها في الجسْم قوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} [الواقعة: 83] فلو لم تكن في الجِسْمِ، لما قال ذلك، وقد أخبرني الفقيهُ الخطيبُ أبو محمد البرجيني رحمه الله عن الشيخ الصَّالح أبي الطاهر الرَّكْرَاكِيِّ رحمه الله قال: حَضَرْتُ عند وَلِيٍّ من الأولياء حين النَّزْعِ، فشاهدتُّ نَفْسَهُ قد خَرَجَتْ من مواضع من جَسَده، ثم تشكَّلت على رأْسِه بشَكْله وصُورَته، ثم صَعِدت إِلى السماء، وصَعِدت نفْسي معها، فلما انتهينا إلى السماء الدنيا، شاهَدتُّ باباً ورجْلَ مَلَكٍ ممدودةً عليه، فأزال ذلك المَلَكُ رِجْله، وقال لنفْسِ ذلك الوليِّ: اصْعَدِي، فَصَعِدَتْ، فأرادَتْ نفْسي أنْ تَصْعَدَ معها، فقال لها: ارْجِعي، فقد بقي لك وقْتٌ، قال: فرجعت فشاهدت الناسَ دائرين على جسْمي، وقائلٌ يقولُ: ماتَ، وآخر يقول: لم يَمُتْ، فدخلَتْ من أنْفي، أو قال: مِنْ عَيْني، وقَمْتُ. انتهى. * ت *: وهذه الحكايةُ صحيحةٌ، ورجال إِسنادها ثقاتٌ معروفون بالفَضْل، فابنَ راشِدٍ هو شارِحُ ابنِ الحاجِبِ الفَرْعِيِّ، والبرجينيُّ معروفٌ عند أهْل إِفريقيَّةَ وأبو الطاهر من أكابر الأولياء معطَّم عند أهل تُونُسَ، مزاره وقبره بالزلاج معروفٌ زرته رحمه الله، وقرأ الجمهور: «وما أوتيتم»، واختلف فيمَنْ خوطب بذلك، فقالت فرقة: السَّائِلُونَ فقَطْ، وقالت فرقة: العالم كلُّه، وقد نص على ذلك صلى الله عليه وسلم؛ على ما حكاه الطبريُّ. وقوله: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ...} الآية: المعنى وما أوتيتم أنْت يا محمَّد، وجميعُ الخلائق من العلْم إِلا قليلاً، فاللَّه يُعلِّم مَنْ علَّمه بما شاء، ويَدَعُ ما شاء، ولو شاء لذهب بالوحْيِ الذي آتاك، وقوله {إِلاَّ رَحْمَةً} استثناءٌ منقطعٌ، أي: لكنْ رحمةً من ربِّك تمسكُ عليك قال الداووديُّ: وما روي عن ابن مسعود من أنه سَيُنْزَعُ القرآنُ من الصدور، وتُرْفَعُ المصاحف لا يَصِحُّ وإِنما قال سبحانه: {وَلَئِن شِئْنَا} فلم يشأ سبحانه، وفي الحديثِ عنه صلى الله عليه وسلم: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ ظَاهِرُونَ» قال البخاريُّ: وهم أهل العِلْم، ولا يكون العلْمُ مع فَقْد القرآن. انتهى كلامُ الداووديِّ، وهو حَسَن جدًّا، وقد جاء في الصحيح ما هو أبْيَنُ من هذا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْتَزِعُ العِلْمَ انْتِزَاعاً ولَكِنْ يَقْبضِ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ...»، الحديث.
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)} وقوله سبحانه: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن...} الآية: سببُ هذه الآية أنَّ جماعة من قريش قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ جِئْتَنَا بآيةٍ غَرِيبَةٍ غَيْرِ هذا القرآن، فإِنا نَقْدِرُ نَحنُ عَلَى المَجِيءِ بمثله، فنزلَتْ هذه الآية المصرِّحة بالتعجيز لجميع الخلائق. قال * ص *: واللام في {لَّئِنِ اجتمعت} اللام الموطِّئة للقسم، وهي الداخلة على الشرطِ، كقوله: {لَئِنْ أُخْرِجُواْ} [الحشر: 12] {لَئِن قُوتِلُواْ} [الحشر: 12] والجوابُ بعدُ للقَسَمِ لتقدُّمه، إِذا لم يسبق ذو خبره لا للشرطِ، هذا مذهبُ البصريِّين خلافاً للفراء في إجازته الأَمرين، إِلا أنَّ الأكثر أنْ يجيء جواب قَسَمٍ، «والظهير» المعين. قال * ع *: وفهمت العرب الفصحاء بُخُلوصِ فهمها في مَيْزِ الكلامِ وَدُرْبتها به ما لا نفهمه نَحْنُ ولا كُلُّ من خالطته حضارةٌ، ففهموا العَجْزَ عنه ضرورةً ومشاهدةً، وعلمه الناس بعدهم استدلالاً ونظراً، ولكلٍّ حصل عِلْم قطعيٌّ، لكن ليس في مرتبةٍ واحدةٍ.
{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} وقوله سبحانه: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا...} الآية: روي في قول هذه المقالة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم حديثٌ طويلٌ، مقتضاه: أنَّ عُتْبَة وشَيْبة ابْنَيْ ربيعَةَ، وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبي أميَّةَ، والنَّضْرَ بْنَ الحَارِثِ وغيرهم من مَشْيَخَةِ قريشٍ وسادَاتِها، اجتمعوا عليه، فعرَضُوا عليه أنْ يملِّكوه إِن أراد المُلْك، أو يجمعوا له كثيراً من المالِ؛ إِن أراد الغنى ونحو هذا من الأقاويل، فدعاهم صلى الله عليه وسلم عند ذلك إِلى اللَّه، وقال: إِنما جئتُكُمْ بأمرٍ منَ اللَّهِ فيه صَلاحُ دنياكم ودِينِكُم، فإِن أطعتم، فَحَسَن، وإِلا صَبَرْتُ حتَّى يحكم اللَّه بيني وبينكم فقالوا له حينئذٍ: فإِن كان ما تَزْعُمُ حقًّا، ففجِّر لنا من الأرض ينبوعاً... الحديث بطوله، «واليَنْبُوع»: الماء النابع، {وخِلاَلَهَا} ظرف، ومعناه أثناءها وفي داخلها. وقوله: {كَمَا زَعَمْتَ} إِشارة إلى ما تلا عليهم قبل ذلك في قوله سبحانه: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السماء...} الآية: [سبأ: 9] «والكِسَفُ» الشيء المقطوع، وقال الزجَّاج المعنى: أو تسقط السماء علينا طبقاً، وقوله: {قَبِيلاً} قيل: معناه مقابلةً وعياناً، وقيل: معناه ضامناً وزعيماً بتصديقك؛ ومنه القبالة وهي الضمان، وقيل: معناه نوعاً وجنساً لا نظير له عندنا، {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ}، قال المفسِّرون: الزُّخْرُفُ الذَّهَب في هذا الموضع، {أَوْ ترقى فِي السماء}، أي: في الهواء علوًّا، ويحتمل أن يريد السماء المعروفَة، وهو أظهر. * ت *: وذكر * ع * هنا كلماتٍ الواجبُ طرحها، ولهذا أعرضْتُ عنها، و{ترقى} معناه تصعد، ويروى أن قائل هذه المقالة هو عبدُ اللَّهِ بْنُ أبي أميَّةِ، ويروى أن جماعتهم طلبَتْ هذه النْحوَ منه، فأمره عزَّ وجلَّ أن يقول: {سُبْحَانَ رَبِّي}، أي: تنزيهاً له من الإِتيان إِليكم مع الملائكةِ قبيلاً، ومن اقتراحِي أنا عليه هذه الأشياءَ، وهل أنا إِلا بشر، إِنما عليَّ البلاغ المبين فقطْ. وقوله: {مُطْمَئِنِّينَ}، أي: وادعين فيها مقيمين.
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)} وقوله سبحانه: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} روي أن من تقدَّم الآن ذكرهم من قريش، قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في آخر قولهم: فَلْتَجِئ مَعَكَ بطائفةٍ من الملائكة تَشْهَدُ لك بِصِدْقك في نبوَّتك، وروي أنهم قالوا: فمن يشهدُ لك؟ ففي ذلك نزلَتِ الآية، أي: اللَّه يشهد بيني وبينكم، ثم أخبر سبحانه؛ أنه يحشرهم على الوُجُوه حقيقةً، وفي هذا المعنى حديثٌ، «قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَمْشِي الكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ قال: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ في الدُّنْيَا عَلَى رِجْلَيْنِ قَادِراً عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ في الآخِرَةِ عَلَى وَجهِهِ؟» قال قتادة: بَلَى، وَعِزَّةِ رَبِّنا. * ت *: وهذا الحديثُ قد خرَّجه الترمذيُّ من طريق أبي هريرة، قال: قال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَة عَلَى ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ: رُكْبَاناً، ومُشَاةً، وعَلَى وُجُوهِهِم...» الحديثَ، وقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ} أي: كلما فرغَتْ من إِحراقهم، فسكن اللهيبُ القائمُ عليهم قَدْرَ ما يعادون، ثم يثورُ، فتلك زيادة السعير، قاله ابن عَبَّاس. قال * ع *: فالزيادة في حيِّزهم، وأما جهنَّم، فعلى حالها من الشدَّة، لا فتور، وخَبَتِ النارُ، معناه: سَكَن اللهيبُ، والجَمْرُ على حاله، وخَمَدَتْ معناه، سكَن الجَمْر وضَعُف، وهَمَدَتْ معناه: طُفِئت جملةً. وقوله سبحانه: {ذلك جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بآياتنا...} الآية: الإِشارة ب {ذلك} إِلى الوعيد المتقدِّم بجهنم.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)} قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض...} الآية: الرؤيةُ في هذه الآية هي رؤية القَلْبِ، وهذه الآية احتجاجٌ عليهم فيما استبعدوه من البَعْثِ، «والأَجَل»؛ ههنا: يحتمل أَن يريد به القيامةَ، ويحتملُ أن يريد أَجَلَ الموت. وقوله سبحانه: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي...} الآية: ال {رَحْمَةِ}، في هذه الآية: المال والنِّعم التي تُصْرَفُ في الأرزاق. وقوله: {خَشْيَةَ الإنفاق} المعنى: خشية عاقبةِ الإِنفاق، وهو الفَقْر، وقال بعض اللُّغويِّين، أنْفَقَ الرجُلُ معناه: افتقَرَ؛ كما تقول أَتْرَبَ وأَقْتَرَ. وقوله: {وَكَانَ الإنسان قَتُورًا} أي: ممسِكاً، يريدُ أنَّ في طبعه ومنتهى نظره أن الأشياء تتناهى وتفنى، فهو لو ملك خزائنَ رحمة الله، لأمسك خشيةَ الفَقْر، وكذلك يظنُّ أن قدرة اللَّه تقفُ دون البَعْث، والأمر ليس كذلك، بل قدرته لا تتناهى.
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)} وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيات بَيِّنَاتٍ...} الآية: اتفق المتأوِّلون والرواةُ؛ أن الآياتِ الخَمْسَ التي في «سورة الأعراف» هي من هذه التسْعِ، وهي: الطُّوفانُ والجَرَادُ والقُمَّل والضَّفادع والَّدمُ، واختلفوا في الأربَعِ. * ت *: وفي هذا الاتفاق نظَرٌ، وَرَوَى في هذا صفوانُ بنُ عَسَّال؛ " أن يهوديًّا من يهودِ المدينةِ، قال لآخَرَ: سِرْ بِنَا إِلى هذا النبيِّ نسأله عن آياتِ موسى، فقال له الآخَرُ: لاتَقُلْ له إنَّه نَبيٌّ، فإِنه لَوْ سَمِعَها، صَارَ له أربعة أعيُنٍ، قال: فَسَارَا إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فسألاه، فقال: «هي لا تُشْرِكُوا باللَّه شيئاً، ولا تسرِقُوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إِلا بالحق، ولا تمشوا ببريءٍ إلى السلطان ليقتله، ولا تَسْحَرُوا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المُحْصَنَات، ولا تَفِرُّوا يَوْمَ الزَّحْف، وعليْكُمْ- خاصَّةَ معْشَرِ اليهودِ ألاَّ تَعْدُوا في السبت» " انتهى، وقد ذكر * ع * هذا الحديث. وقوله سبحانه: {فَسْئَلْ بَنِي إسراءيل إِذْ جَاءَهُمْ}، أي: إِذ جاءهم موسى واختلف في قوله: {مَسْحُورًا} فقالتْ فرقة: هو مفعولٌ على بابه، وقال الطبري: هو بمعنى ساحرٍ، كما قال {حِجَابًا مَّسْتُورًا} [الاسراء: 45] وقرأ الجمهور: «لَقَدْ عِلمْتَ»، وقرأ الكسائيُّ: «لَقَدْ عَلِمْتُ» بتاء المتكلِّم مضمومةً، وهي قراءة علي بن أبي طالب وغيره، وقال: ما علم عَدُوُّ اللَّه قطُّ، وإِنما علم موسى والإِشارة ب {هَؤُلاءِ} إِلى التسع. وقوله: {بَصَائِرَ}: جمعُ بصيرةٍ، وهي الطريقةُ، أي طرائِقَ يُهْتَدَى بها، و«المثبور» المُهْلَكُ؛ قاله مجاهد، {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض}، أي: يستخفهم ويقتلهم، والأرض هنا أرْضُ مِصْر، ومتى ذكرت الأرض عموماً، فإِنما يراد بها ما يناسب القصَّة المتكلَّم فيها، واقتضبَتْ هذه الآيةُ قصص بني إِسرائيل مع فرعون، وإِنما ذكرت عِظَمَ الأمر وخطيره، وذلك طرفاه؛ أراد فرعون غلبتهم وقتلهم، وهذا كان بَدْءَ الأمر؛ فأغرقه اللَّه وجُنُودَهُ، وهذا كان نهايةَ الأمر، ثم ذكر سبحانه أمْرَ بني إسرائيل بعد إِغراق فرَعوْنَ بسُكْنَى أرض الشامِ و{وَعْدُ الأخرة} هو يوم القيامة، «واللفيفُ» الجَمْعُ المختلطُ الذي قد لُفَّ بعضُه إِلى بعض.
{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} وقوله سبحانه: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ} يعني القرآن نَزَلَ بالمصالحِ والسَّدادِ للناس، و{بالحق نَزَلَ} يريد: بالحقِّ في أوامره ونواهيه وأخباره، وقرأ جمهور الناس: «فَرْقَنَاهُ» بتخفيف الراء، ومعناه: بيَّنَّاه وأوضَحْناه وجَعَلْناه فرقاناً، وقرأ جماعةٌ خارجَ السبْعِ: «فَرَّقْنَاهُ» بتشديد الراء، أي: أنزلناه شيئاً بعد شيء، لا جملةً واحدة، ويتناسق هذا المعنى مع قوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ}، وتأوّلت فرقةٌ قوله: {على مُكْثٍ} أي: على ترسُّل في التلاوةِ، وترتُّل، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جُرَيْج وابن زيد، والتأويلُ الآخر، أي على مُكْثٍ وتطاوُلٍ في المدة شيئاً بعد شيء. وقوله سبحانه: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ} فيه تحقيرٌ للكفَّار، وضَرْب من التوعُّد، و{الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ}: قالت فرقة: هم مؤمنو أهْلِ الكتابِ، و«الأذقان»: أسافل الوجوه حيث يجتمع اللَّحْيَانَ. قال الواحِدِيُّ: {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا} أي: بإِنزال القرآن، وبعَث محمَّد {لَمَفْعُولاً}. انتهى. وقوله سبحانه: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} هذه مبالغةٌ في صفتهم، ومَدْحٌ لهم وحضٌّ لكل من توسَّم بالعلم، وحصَّلَ منه شيئاً أنْ يجري إلى هذه الرتبة النفيسَةِ وحكَى الطبريُّ عن التميميِّ؛ أن من أوتي من العلْمِ ما لم يُبْكِهِ لخَلِيقِ ألاَّ يكونَ أوتي عْلماً ينفعه؛ لأن اللَّه سبحانه نعت العلماء، ثم تَلاَ هذه الآية كلَّها. * ت *: وإِنه واللَّهِ لكذلكَ، وإِنما يخشَى اللَّهَ مِنْ عباده العلماءُ، اللهمَّ انْفَعْنَا بما عَلَّمتنا، ولا تجعْلُه علينا حجَّةً بفضلك، ونقل الغَزَّاليُّ عن ابن عبَّاس؛ أنه قال: إِذا قرأتم سَجْدَةَ «سُبْحَانَ»، فلا تعجلوا بالسُّجُود حتى تَبْكُوا، فإِن لم تَبْكِ عينُ أحدِكُمْ، فَلْيبكِ قلبه. قال الغَزَّالِيُّ: فإن لم يحضرْهُ حُزْن وبكاءٌ؛ كما يحضر أرباب القلوب الصافيَةِ فليَبْكِ على فَقْدِ الحُزْن والبكاء، فإِن ذلك من أعظم المصِائبِ. قال الغَزَّالِيُّ: واعلم أنَّ الخشوع ثمرةُ الإِيمان، ونتيجةُ اليقينِ الحاصلِ بعظمةِ اللَّه تعالى، ومَنْ رُزِقَ ذلك، فإِنه يكون خاشعاً في الصلاة وغيرها؛ فإِن موجب الخشوع استشعارُ عظمة اللَّه، ومعرفةُ اطلاعه على العَبْد، ومعرفةُ تقصير العَبْد، فمن هذه المعارفِ يتولَّد الخشوعُ، وليْسَتْ مختصَّةً بالصلاة، ثم قال: وقد دلَّت الأخبار على أن الأصل في الصَّلاة الخشوعُ، وحضورُ القَلْب، وأن مجرَّد الحركاتِ مع الغَفْلة قليلُ الجدوى في المعادِ، قال: وأعلم أنَّ المعاني التي بها تتمُّ حياة الصلاة تجمعها ستُّ جُمَلٍ، وهي: حضورُ القَلْبِ، والتفهُّمُ، والتعظيمُ، والهَيْبَة، والرجاءُ، والحياءُ، فحضور القَلْب: أن يفرِّغه من غير ما هو ملابسٌ له، والتفهُّم: أمر زائد على الحُضُور، وأما التعظيم، فهو أمر وراءَ الحضور والفَهْمِ، وأما الهَيْبة، فأمر زائد علي التعظيمِ، وهي عبارة عن خَوْفٍ مَنْشَؤه التعظيم، وأما التعظيم، فهو حالةٌ للقَلْب تتوَّلد من معرفتين: إِحداهما: معرفة جلالِ اللَّه سبحانه وعظمته، والثانية: معرفة حقارة النفْسِ، واعَلَمْ أَنَّ حضور القلب سببه الهِمَّة، فإِن قلبك تَابِعٌ لهمَّتك، فلا يحضر إِلا فيما أهمَّك، ومهما أهمَّك أمر، حَضَر القَلْب، شاء أم أبى، والقلب إذا لم يحضُرْ في الصلاة، لم يَكُنْ متعطِّلاً؛ بل يكون حاضراً فيما الهمة مصروفةٌ إِليه. انتهى من «الإحياء».
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)} وقوله سبحانه: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن...} الآية: سبب نزول هذه الآية: أنَّ بعض المشركين سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يدعو: يا اللَّه يا رَحْمَانَ، فقالوا: كان محمَّدٌ يأمرنا بدعاءِ إله واحدٍ، وهو يدْعو إِلَهْين، قاله ابن عباس، فنزلَتِ الآية مبيِّنةً، أنها أسماء لمسمًّى واحد، وتقدير الآية: أيُّ الأسماءِ تدعو به، فأنت مصيبٌ، فله الأسماءُ الحسنى، وفي «صحيحِ البخاريِّ» بسنده عن ابن عباس في قوله سبحانه: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ: نَزَلَتْ ورسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخْتَفٍ بمكَّةَ، كان إِذَا صَلَّى بأصحابه، رَفَعَ صَوْتَهُ بالقرآن، فإِذا سمعه المشْرِكُون، سَبُّوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، فقال اللَّه تبارك وتعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ}، أي: بقراءتك، فيسمَعَ المشركونَ فيسبوا القرآن، {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك؛ فلا تسمعهم، {وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً}، وأسند البخاريُّ عن عائشة: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} قالتُ: أنزل ذلك في الدعاءِ انتهى. قال الغَزَّاليُّ في «الإِحياء»: وقد جاءت أحاديثُ تقتضي استحبابَ السِّرِّ بالقرآن، وأحاديثُ تقتضي استحبابَ الجَهْر به، والجَمُع بينهما أنْ يقال: إِن التالي إِذا خاف على نفسه الرِّياءَ والتصنُّع أو تشويش مُصَل، فالسر أفضلُ، وإِن أَمِنَ ذلك، فالجهر أَفَضَلُ؛ لأن العمل فيه أكثر؛ ولأن فائدته أيضاً تتعدَّى إلى غيره؛ والخير المتعدِّي أفضلُ من اللازم؛ ولأنه يوقظ قَلْب القارئ، ويجمع همَّته إلى الفكْر فيه، ويصرف إِليه سَمْعَه، ويطرد عنه النوْمَ برفْعِ صوته، ولأنه يزيدُ في نشاطه في القراءة، ويقلِّل من كسله؛ ولأنه يرجو بجهره تيقُّظ نائمٍ، فيكون سَبَباً في إِعانته على الخير، ويسمعه بَطَّال غافلٌ، فينشط بسببه، ويشتاقُ لخدمة خالقه، فمهما حَضَرَتْ نيَّةٌ من هذه النيَّات، فالجهر أفضلُ، وإِن اجتمعتْ هذه النيَّاتُ، تضاعَفَ الأجر، وبكثرة النياتِ يزْكُو عمل الأبرار وتتضاعف أجورهم. انتهى. وقوله سبحانه: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل} هذه الآية رادَّة على كَفَرة العرب في قولهم: لولا أولياءُ اللَّه، لَذَلَّ- تعالى اللَّه عن قولهم- وقَّيد سبحانه نَفْيَ الولاية له بطريقِ الذُّلِّ، وعلى جهة الانتصار؛ إِذ ولايته سبحانه موجُوَدةٌ بفضله ورحمته لمن والى من صَالح عباده. قال مجاهد: المعنى لم يخالِفْ أحداً ولا ابتغى نصْرَ أحد سبحانه، لا إله إِلا هو وصلَّى اللَّه على سيدِّنا وموْلانا محمَّد وعلى آله وصَحْبه وسلَّم تسليماً.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} قوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} كان حفْصٌ عن عاصم يَسْكُتُ عند قوله: {عِوَجَا} سكتةً خفيفة، وعند {مَّرْقَدِنَا} في يس [يس: 52] وسبب هذه البداءة في هذه السورة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما سألته قريشٌ عن المسائِلِ الثَّلاثِ: الرُّوحِ، وأصحابِ الكهف، وذِي القَرْنَيْنِ، حسب ما أمرتهم به يهود- قال لهم صلى الله عليه وسلم: «غَداً أُخْبِرُكُمْ بِجَوَابِ مَا سَأَلْتُمْ» ولم يقلْ: إِن شاء اللَّه، فعاتَبَهُ اللَّه عزَّ وجلَّ، وأمسك عنه الوحْيَ خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً، وأرجف به كُفَّار قريشٍ، وشَقَّ ذلك على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبلَغَ منه، فلما انقضى الأمَدُ الذي أراد اللَّهُ عِتَابَ نبيِّه، جاءه الوحْيُ بجوابِ ما سألوه، وغير ذلك، فافتتح الوحْي ب {الحمد لِلَّهِ الذي أَنزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب}، وهو القرآن. وقوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا}، أي: لم ينزله عن طريق الاستقامة، «والعِوَج» فَقُدُ الاستقامة، ومعنى {قَيِّماً}، أي: مستقيماً؛ قاله ابن عباس وغيره، وقيل: معنا أنه قَيِّم على سائر الكتب بتصديقها، ولم يرتضه * ع *، قال: ويصح أن يكون معنى «قيِّم» قيامَهُ بأمر اللَّه على العَالَمِ وهذا معنى يؤيِّده ما بعْده من النِّذارة والبشارة اللتَيْن عمتا العالَمَ، «والبأس الشديد» عذاب الآخرة، ويحتملُ أنْ يندرج معه في النِّذارة عذابُ الدنيا ببَدْرٍ وغيرها، و{مِّن لَّدُنْهُ}، أي: من عنده، والمعنى: لينذر العالَمَ و«الأجر الحسن» نعيمُ الجنة، ويتقدَّمه خير الدنيا. وقوله تعالى: {إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا}، أي: ما يقولون، فهي النافية.
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)} وقوله سبحانه: {فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ} هذه آية تسلية للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والباخِعُ نَفْسَه هو مهلكها. قال * ص *: «لعلَّ» للترجِّي في المحبوب، وللإِشفاق في المحذور، وهي هنا للإِشفاق. انتهى. وقوله: {على آثارهم}: استعارة فصيحةٌ من حيثُ لهم إِدبارٌ وتباعُدٌ عن الإِيمان؛ فكأنهم من فرط إِدبارهم قَدْ بَعُدُوا، فهو في آثارهم يحزَنُ عليهم. وقوله: {بهذا الحديث}، أي: بالقرآن، «والأسف» المبالغة في حزنٍ أو غضبٍ، وهو في هذا الموضع الحزنُ؛ لأنه على مَنْ لا يملك، ولا هو تحت يدِ الآسِفِ، ولو كان الأَسَفُ من مقتدرٍ على من هو في قبضته ومِلْكه، لكان غضباً، كقوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف: 55] أي: أغضبونا. قال قتادة: {أَسَفاً}: حُزْناً. وقوله سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا...} الآية: بسط في التسلية، أي: لا تهتمَّ بالدنيا وأهلها، فإن أمرها وأمرهم أقلُّ؛ لفناء ذلك وذهابه، فإِنا إِنما جعلنا ما على الأرض زينةً وامتحاناً واختباراً، وفي معنى هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم: " الدُّنْيَا حُلْوَةُ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيا واتقوا النِّسَاءَ " {لِنَبْلُوَهُمْ} أي: لنختبرهم، وفي هذا وعيدٌ مَّا. قال سفيانُ الثَّوْريُّ: أحسنهم عملاً: أزهدهم فيها، وقال أبو عاصم العَسْقَلاَنِيُّ: {أَحْسَنُ عَمَلاً}. الترك لها. قال * ع *: وكان أبي رحمه اللَّه يقولُ: أحسن العَمَلِ: أخْذٌ بحقٍّ، وإِنفاقٌ في حقٍّ، وأداء الفرائض، واجتناب المحارِمِ، والإِكثار من المندوب إِليه. قوله سبحانه: {وَإِنَا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} أي: يرجع ذلك كُّله تراباً، «والجُرُز»: الأرض التي لا شيء فيها مِنْ عمارةٍ وزينةٍ، فهي البَلْقَعُ، وهذه حالة الأرض العَامِرَةِ لا بُدَّ لها من هذا في الدنيا جزءاً جزءاً من الأرض، ثم يعمُّها ذلك بأجمعها عند القيامة، و«الصعيدُ» وجْه الأرض، وقيل: «الصَّعيد»: التراب خاصَّة.
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)} وقوله سبحانه: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آياتنا عَجَبًا}، أي: ليسوا بعجب من آياتِ اللَّهِ، أي فلا يَعْظُمْ ذلك عليك بحسب ما عَظَّمه السائلون، فإِن سائر آيات اللَّه أعظَمُ من قصتهم، وهو قول ابن عباس وغيره، واختلف الناس في {الرَّقِيمِ} ما هو؟ اختلافاً كثيراً، فقيل: «الرقيم» كتابٌ في لوحِ نُحَاسٍ، وقيل: في لوحِ رَصَاصٍ، وقيل: في لوحِ حجارةٍ كتبوا فيه قصَّة أهْل الكهفِ، وقيل غير هذا، وروي عن ابن عباس؛ أنه قال: ما أدْرِي مَا الرَّقِيم؟ قال * ع *: ويظهر من هذه الرواياتِ؛ أنهم كانوا قوماً مؤَرِّخين، وذلك مِنْ نُبْل المملكة، وهو أمر مفيدٌ. وقوله سبحانه: {إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف}: {الفتية}، فيما روي؛ قوم من أبناء أشرافِ مدينةِ دِقْيُوس المَلِكِ الكافِرِ، ويقال فيه «دقيانوس»، وروي أنهم كانوا مُطَوَّقين مسَوَّرين بالذهب، وهم من الروم، واتبعوا دينَ عيسَى، وقيل: كانوا قبل عيسَى، واختلف الرواةُ في قصصهم، ونذْكُر من الخلافِ عُيُونَه، وما لا تستغني الآية عنه: فروي عن مجاهدٍ عن ابن عباس، أن هؤلاء الفتية كانوا في دينِ مَلِكٍ يعبد الأصنام، فوقَع للفتيةِ عِلْمٌ من بعض الحواريِّين، حَسْبما ذكره النَّقَّاش، أو من مؤمني الأمم قبلهم، فآمنوا باللَّه، ورأَوا ببصائرهم قَبِيحَ فعْل الناس، فرفع أمرهم إِلى المَلِك، فاستحضَرَهُمْ، وأمرهم بالرجُوعِ إِلى دينه، فقالوا له فيما رُوِيَ: {رَبُّنَا رَبُّ السموات والأرض...} [الكهف: 14] الآية، فقال لهم الملك: إِنَّكُمْ شُبَّانٌ أغْمَارٌ، لا عَقْل لكم، وأَنا لا أعْجَلُ عليكم، وضَرَبَ لهم أجلاً ثم سافر خِلاَلَ الأجَلِ، فتشاور الفتْيَةُ في الهروبِ بأديانهم، فقال لهم أحَدُهم: إِني أعْرِفُ كهْفاً في جَبَلِ كذا، فلنذهب إِليه. وروت فرقةٌ إنَّ أمر أصحاب الكهْف إنما كان أنهم من أبناء الأشْرَافِ، فحضر عيدٌ لأهْلِ المدينة، فرأى الفتْيَةُ ما ينتحله الناسُ في ذلك العِيدِ من الكُفْرِ وعبَادة الأصنام، فوقع الإِيمانُ في قلوبهم، وأجمعوا على مفارقة دِينِ الكَفَرة، وروي أنهم خَرَجُوا، وهُمْ يلعبون بالصَّوْلَجَانِ والكَرة، وهم يدحرجونها إِلى نحو طريقهم؛ لئلاَّ يشعر الناس بهم؛ حتى وصلوا إِلى الكهف، وأما الكلب فرِوِيَ أنه كان كَلْبَ صيدٍ لبعضهم، وروي أنهم وجدوا في طريقهم رَاعياً له كلْبٌ، فاتبعهم الراعي على رأيهم، وذهب الكلْبُ معهم، فدخلوا الغَارَ، فروت فرقة أن اللَّه سبحانه ضَرَبَ على آذانهم عند ذلك، لما أراد مِنْ سَتْرهم وخَفِيَ على أهْل المملكة مكانُهم، وعَجِبَ الناسُ من غَرَابة فَقْدهم، فأرَّخوا ذلك ورقَّموه في لوحَيْنِ من رصاصٍ أو نحاسٍ، وجعلوه على باب المدينةِ، وقيل على الرواية: إِن الملك بَنَى باب الغار، وإِنهم دفنوا ذلك في بِنَاءِ الملِك على الغار، وروت فرقة، أن المَلِك لما علم بذَهَاب الفتية، أَمَرَ بقَصِّ آثارهم إِلى باب الغار، وأمر بالدخول عليهم، فهَابَ الرجالُ ذلك، فقال له بعضُ وزرائه: «أَلَسْتَ أيها المَلِكُ إِن أخرجتَهم قتلَتهم؟ قال: نعم، قال: فأيُّ قِتْلة أبلغُ من الجُوع والعَطَش، ابن عليهم باب الغارِ، ودعْهم يموتوا فيه، ففعل، وقد ضَرَبَ اللَّه على آذانهم كما تقدَّم، ثم أخبر اللَّه سبحانه عن الفتْيَة أنهم لما أَوَوْا إِلى الكَهْف، أي: دخلوه وجعلوه مأوًى لهم وموضعَ اعتصام دَعَوُا اللَّه تعالى بأن يؤتيهم من عنده رحمةً، وهي الرْزقُ فيما ذكره المفسِّرون، وأن يهيِّئ لهم من أمرهم رَشَدَاً؛ خلاصاً جميلاً، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم، وألفاظهم تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقةٍ من رَشَدِ الآخرة ورحمتها، وينبغي لكُلِّ مؤمن أنْ يجعَلَ دعاءه في أمر دنياه بهذه الآية الكريمة فقطْ؛ فإنها كافية، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمْر الآخرة.
{فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)} وقوله تعالى: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ...} الآية: عبارةٌ عن إلقاء اللَّه تعالى النَوْمَ عليهم. وقوله: {عَدَدًا} نعت ل«السنين» والقصد به العبارة عن التكثير. وقوله: {لَنَعْلَمَ}: عبارة عن خروج ذلك الشيءِ إِلى الوجود، أي: لنعلم ذلك موجوداً وإِلا فقد كان سبحانه علم أيَّ الحزبَيْن أحْصَى الأمَدَ، و«الحْزَبان»: الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية، إِذ ظنوا لبثهم قليلاً، والحزب الثاني هم أهْل المدينة الذين بعث الفتية على عَهْدهم حين كان عنْدَهم التاريخُ بأمْر الفتية، وهذا قولُ الجمهور من المفسِّرين، وأما قوله: {أحصى} فالظاهر الجيد فيه أنَّه فعل ماض، و{أَمَدًا} منصوبٌ به على المفعول، «والأمد»: الغاية، ويأتي عبارةً عن المدَّة، وقال الزَّجَّاج: {أحصى} هو «أفْعَل»، ويعترض بأن «أَفْعَل» لا يكون من فْعلِ رباعيٍّ إِلا في الشاذِّ، و{أحصى}: فعلٌ رباعيٌّ؛ ويحتجُّ لقول الزَّجَّاج بأن «أفْعَل» من الرباعيِّ قد كثر كقولك: مَا أَعْطَاهُ لِلْمَالِ، وكقوله عليه الصلاة والسلام في صفة جهنَّمِ: «أَسْود مِنَ القَارِ» وفي صفة حوضِهِ «أَبْيَض مِنَ اللَّبَنِ». * ت *: وقد تقَّدم أن «أسْوَد» من «سود»، وما في ذلك من النقْدِ، وقال مجاهدٌ: {أَمَدًا} معناه عدداً، وهذا تفسيرٌ بالمعنى. وقوله سبحانه: {وزدناهم هُدًى}، أي: يسَّرناهم للعمل الصالحِ، والانقطاع إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، ومباعدةِ الناسِ، والزهْدِ في الدنْيا، وهذه زياداتٌ على الإِيمان.
{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16)} وقوله سبحانه: {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ}: عبارة عن شدَّةِ عزمٍ، وقوةِ صبرٍ، ولما كان الفَزَعُ وخَوَرُ النفس يشبه بالتناسُب الانحلالَ، حَسُنَ في شدَّة النفْس، وقوَّة التصميمِ أنْ يُشْبِه الربْطُ، ومِنْه يقالُ: فلانٌ رَابِطُ الجأشَ؛ إِذا كان لا تَفْرَقُ نفسه عند الفَزَعَ والحروبِ وغيرها، ومنْه الربْطُ على قَلْب أمِّ موسى. وقوله تعالى: {إِذَ قَامُواْ} يحتمل أنْ يكون وصف قيامهم بين يَدَيِ الملك الكافِرِ، فإِنَّه مَقَامٌ يحتاج إلى الربْطِ على القَلْب، ويحتمل أن يعبر بالقيام على انبعاثهم بالعَزْمِ على الهُرُوب إلى اللَّه ومنابذة النَّاس؛ كما تقول: قَامَ فُلاَنٌ إِلى أمْرِ كذا؛ إذا اعتزم عليه بغايةِ الجِدِّ، وبهذه الألفاظ التي هي: {قَامُواْ فَقَالُواْ}، تعلَّقتِ الصوفيَّة في القيامِ والقَوْل، «والشَّطَط»: الجَوْر وتعدِّي الحدِّ والحقِّ بِحَسَبِ أَمْرٍ أَمْرٍ و«السلطان»: الحجة، وقال قتادة: المعنى بعذرٍ بيِّن، ثم عظموا جرم الداعين مع اللَّه غيره، وظُلُمَهم بقولهم: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا}، وقولهم: {وَإِذِ اعتزلتموهم...} الآية: المعنى قال بعضهم لبعضٍ، وبهذا يترجَّح أن قوله تعالى: {إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ} إنما المراد به إِذ عزموا ونَفَذُوا لأمْرهم، وفي مصحف ابن مسعود: «ومَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ»، ومضمَّن هذه الآية الكريمة أن بعضهم قال لبعض: إِذ قد فارَقْنَا الكفَّار، وانفردْنا باللَّه تعالى، فلنجعل الكَهْفَ مأوًى، ونَّتكل على اللَّهِ تعالى، فإنه سيبسُطُ علينا رحمته، وينشرها علينا ويهيِّئ لنا من أمرنا مرفقاً، وهذا كله دعاءٌ بحَسَب الدنيا، وهم على ثِقَة من اللَّه في أمر آخرتهم، وقرأ نافع وغيره: «مَرْفِقاً» بفتح الميم وكسر الفاء، وقرأ حمزة وغيره بكسر الميم وفتح الفاء، ويقالان معاً في الأمر، وفي الجارحة، حكاه الزَّجَّاج.
{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)} وقوله سبحانه: {وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين} و{تَّزَاوَرُ}، أي: تميل، و{تَّقْرِضُهُمْ} معناه تتركهم، والمعنى: أنهم كانوا لا تصيبهم شمْسٌ البتة، وهو قول ابن عباس، وحكى الزَّجَّاج وغيره، قال: كان بابُ الكَهْف ينْظُرُ إِلى بناتِ نَعْشٍ، وذهب الزَّجَّاج إِلى أن فعْلَ الشمس كان آيةً من اللَّه تعالى دون أنْ يكون باب الكهْفِ إِلى جهة توجِبُ ذلك، وال {فَجْوَةٍ}: المتَّسِعَ، قال قتادة: في فضاء منه؛ ومنه الحديث: " فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ ". وقوله سبحانه: {ذلك مِنْ آيات الله} الإِشارة إلى الأمر بجملته. وقوله سبحانه: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين...} الآية: ذكر بعض المفسِّرين أن تقليبهم إِنما كان حفظاً من الأرض، وروي عن ابن عبَّاس، أنه قال لو مَسَّتهم الشمْسُ، لأحرقتهم، ولولا التقليبُ، لأكلتهم الأرض، وظاهر كلام المفسِّرين أن التقليب كان بأمر اللَّه وفعْلِ ملائكته، ويحتمل أنْ يكون ذلك بإِقدار اللَّه إِياهم على ذلك، وهم في غَمْرة النَّوْم. وقوله: {وَكَلْبُهُم}: أكثر المفسِّرين على أنه كَلْبٌ حقيقةً. قال * ع *: وحدَّثني أبي رحمه الله قال: سَمِعْتُ أبا الفضل بن الجَوْهَرِيِّ في جامِعِ مِصْرَ يقُولُ على منبر وعْظِهِ سنَةَ تسْعٍ وستِّينَ وأربعمائةٍ: مَنْ أحَبَّ أهْلَ الخير، نال مِنْ بركتهم، كَلْبٌ أحبَّ أهْل الفضل، وصَحبهم، فَذَكَره اللَّه في مُحْكَم تنزيله. و«الوَصِيدُ» العَتَبة التي لباب الكهْفِ أو موضعها إِن لم تكنْ، وقال ابن عباس: «الوصيد» الباب والأول أصحُّ، والباب المُوَصَدُ هو المُغْلَق، ثم ذكر سبحانه ما حفَّهم به من الرُّعْب، واكتنفهم من الهَيْبة، حْفظاً منه سبحانه لهم، فقال: {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ...} الآية.
{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)} وقوله سبحانه: {وكذلك بعثناهم لِيَتَسَاءلُواْ بَيْنَهُمْ} الإِشارة ب«ذلك» إلى الأمر الذي ذكَره اللَّه في جِهَتِهِمْ، والعبرة التي فعلها فيهم، «والبَعْث»: التحريك عن سكونٍ، واللام في قوله: {لِيَتَسَاءَلُواْ} لام الصيرورة، وقول القائلِ: {كَمْ لَبِثْتُمْ} يقتضى أنه هَجَسَ في خاطره طُولُ نومهم، واستشعر أنَّ أمرهم خَرَجَ عن العادة بعضَ الخروجِ، وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حالٍ منَ الوَقْت، والهواء الزمانيُّ لا يباين الحالة التي ناموا عليها، وقولهم: {فابعثوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ} يروى أنهم انتبهوا، وهُمْ جيَاعٌ، وأنَّ المبعوثَ هو تَمْلِيخَا، وروي أن باب الكهف انهدَمَ بناءُ الكفَّار منه؛ لطول السنين، ويروى أن راعياً هدمه؛ ليدخل فيه غنمه، فأخذ تمليخا ثياباً رثَّةً منْكَرة ولبسها، وخرَجَ من الكهف، فأنكر ذلك البِنَاءَ المهدُومَ؛ إذ لم يعرفه بالأمْسِ، ثم مَشى، فجعل يُنْكِر الطريق والمعالمَ، ويتحيَّر وهو في ذلك لا يشعر شعوراً تامًّا، بل يكذِّب ظنه فيما تغيَّر عنده حتى بَلَغَ بابَ المدينة، فرأى على بابها أمَارة الإِسلام، فزادَتْ حَيْرَتُه، وقال: كيف هَذَا بِبَلد دقْيُوس، وبالأمْسِ كنا معه تَحْتَ ما كنا، فنهض إلى بابٍ آخر، فرأى نحواً من ذلك؛ حتى مشَى الأبوابَ كلَّها، فزادَتْ حيرته، ولم يميِّز بشراً، وسمع الناس يُقْسِمُون باسم عيسى، فاستراب بنَفْسه، وظنَّ أنه جُنَّ، أو انفسد عقله، فبقي حَيْرَان يدعو اللَّه تعالى، ثم نهض إِلى باب الطعام الذي أراد اشتراءه، فقال: يا عبد اللَّه، بِعْنِي من طعامك بهذه الوَرِقِ، فدفع إِليه دَرَاهِمَ، كأخْفَافِ الربع فيما ذُكِرَ، فعجب لها البائعُ ودَفَعَهَا إلى آخر يُعَجِّبُهُ، وتعاطَاهَا النَّاسُ، وقالوا له: هذه دراهِمُ عَهْدِ فلانٍ المَلِكِ، مِنْ أيْن أنْتَ؟ وكَيْفَ وجدتَّ هذا الكَنْزَ، فجعل يبهت ويعجَبُ، وقد كان بالبلد مشهوراً هو وبَيْتُهُ، فقال: ما أعرفُ غير أنِّي وأصْحَابي خَرَجْنا بالأمْس من هذه المدينةِ، فقال النَّاس: هذا مجنونٌ، اذهبوا به إِلى المَلِكِ، ففزِعَ عند ذلك، فَذُهِبَ به حتى جيءَ به إلى المَلِكِ، فلما لم يَرَ دْقيُوس الكافِرَ، تأنَّس، وكان ذلك المَلِكُ مؤمناً فاضلاً يسمَّى تبدوسِيس، فقال له المَلِكُ: أين وجدت هذا الكَنْز؟ فقال له: إِنما خرجْتُ أنا وأصْحَابي أمْس من هذه المدينة، فأوينا إِلى الكَهْف الذي في جَبَل أنجلوس، فلما سمع المَلِكُ ذلك، قال في بعض ما رُوِيَ: لعلَّ اللَّه قَدْ بعث لكُمْ أيُّها الناس آيَةً فَلْنَسِرْ إِلى الكهف، حتى نرى أصحابه، فساروا، وروي أنه أو بعض جلسائه قال: هؤلاءِ هُمُ الفتيةُ الذين ورِّخَ أمرهم على عهد دقْيُوس المَلِك، وكتب على لُوح النُّحَاس بباب المدينةِ، فسار الملك إليهم، وسار الناس معه فلما انتهوا إلى الكهف، قال تَمْليَخا: أدخُلُ عليهم لئلا يرعبوا، فدخل عليهم، فأعلمهم بالأمْر، وأن الأمة أمَّة إِسْلام، فروي أنهم سُرُّوا وخَرَجُوا إلى الملك، وعظَّموه، وعظَّمهم، ثم رجَعُوا إلى الكهف، وأكثرُ الروايات على أنهم ماتُوا حين حدَّثهم تملِيخَا، فانتظرهم النَّاسُ، فلما أبطأ خروجُهم، دَخَل الناس إليهم، فرعبَ كلُّ من دخل، ثم أقدموا فوجَدُوهم موتى، فتنازعوا بحَسَب ما يأتى، وفي هذه القصص من الاختلاف ما تَضِيقُ به الصُحفُ فاختصرته، وذكرت المهم الذي به تتفسَّر ألفاظ الآيةِ، واعتمدتُّ الأصحَّ واللَّه المعينُ برحمته، وفي هذا البَعْثِ بالوَرِقِ جوازُ الوَكَالةِ، وصحَّتُها. و {أَزْكَى} معناه: أكثر فيما ذكر عكرمة، وقال ابن جُبَيْر: المراد أحَلّ، وقولهم: {يَرْجُمُوكُمْ} قال الزجاج: بالحجارة، وهو الأصح وقال حَجَّاج: «يرجموكم» معناه: بالقول وقوله سبحانه: {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ}: الإِشارة في قوله: {وكذلك} إلى بعثهم ليتساءلوا، أي: كما بعثناهم، أعثرنا عليهم، والضمير في قوله: {لِيَعْلَمُواْ} يحتمل أن يعود على الأمَّة المسلمة الذين بُعِثَ أهّل الكهف على عهدهم، وإلى هذا ذهب الطبريُّ؛ وذلك أنهم فيما روي دخلتهم حينئذٍ فتنةٌ في أمْرِ الحَشْر وبَعْثِ الأجساد من القبور، فشَكَّ في ذلك بعضُ الناس، واستبعدوه، وقالوا: إِنما تُحْشَر الأرواح، فشَقَّ ذلك على مَلِكهم، وبقي حَيرَان لا يَدْرِي كيف يبيِّن أمره لهم، حتى لَبَس المُسُوح، وقعد على الرَّمَادَّ وتضرَّع إلى اللَّه في حُجَّة وبيانٍ، فأعثرهم اللَّه على أَهْل الكهف، فلما بعثهم اللَّه، وتبيَّن الناس أمرهم؛ سُرَّ الملِكُ، ورَجَعَ مَنْ كان شَكَّ في بعث الأجساد إلى اليقين به، وإلى هذا وقعت الإِشارة بقوله: {إِذْ يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}؛ على هذا التأويل، ويحتمل أن يعود الضميرُ في {يَعْلَمُواْ} على أصحاب الكهف، وقوله: {إِذْ يتنازعون}؛ على هذا التأويل: ابتداءُ خبرٍ عن القوم الذين بُعِثُوا على عهدهم، والتنازع على هذا التأويل إِنما هو في أمر البناء أو المسجد، لا في أمر القيامة، وقد قيل: إِن التنازع إِنما هو في أنْ اطلعوا عَليْهم، فقال بعضهم: هم أمواتٌ، وبعضٌ: هم أحياء، وروي أنَّ بعض القومِ ذهبوا إلى طمس الكَهْف عليهم، وترْكِهِم فيه مغيِّبين، فقالت الطائفة الغالبة على الأمر: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا}، فاتخذوه، قال قتادة: {الذين غَلَبُواْ} هم الولاة.
{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)} وقوله سبحانه: {سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ...} الآية: الضميرُ في {سَيَقُولُونَ} يراد به أهْل التوراةِ من معاصري نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهْل الكهف. وقوله: {رَجْماً بالغيب}: معناه ظَنًّا وهو مستعارٌ من الرجْمِ، كأن الإِنسان يرمي الموضع المُشْكِلَ المجهول عنده بظنه المرةَ بعد المَرَّة يرجُمُه به، عَسَى أن يصيبه، والواو في قوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}: طريق النحاة فيها أنها واو عَطْفٍ دخلَتْ في آخر الكلام؛ إخباراً عن عددهم، لتفصِّل أمرهم، وتدلَّ على أن هذا نهايةُ ما قيل، ولو سقطَتْ، لصح الكلام، وتقول فرقةٌ منهم ابنُ خالَوَيْهِ: هي واو الثمَانِيَةِ، وذكر ذلك الثعلبيُّ عن أبي بكر بن عَيِّاشٍ وأن قريشاً كانت تقول في عددها: ستة، سبعة وثمانية تسعةٌ، فتدخل الواو في الثمانية. * ع *: وهي في القرآن في قوله: {والناهون عَنِ المنكر} [التوبة: 112] وفي قوله: {وَفُتِحَتْ أبوابها} [الزمر: 73] وأما قوله: {وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5] وقوله: {وثمانية أَيَّامٍ} [الحاقة: 7] فليستْ بواو الثمانيةِ بل هي لازمة إِذ لا يستغني الكلامُ عنها، وقد أمر اللَّه سبحانه نبيَّه في هذه الآية، أنْ يرد علْمَ عدَّتهم إِليه، ثم قال: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} يعني: مِنْ أهل الكتاب، وكان ابن عبَّاس؛ يقولُ: أنا من ذلك القليل، وكانوا سبعةً، وثامنهم كلبهم. قال * ع *: ويدلُّ على هذا من الآية أنه سبحانه لَمَّا حكى قول من قال: ثلاثة، وخمسة، قَرَنَ بالقول؛ أنه رَجْم بالغيب، ثم حكى هذه المقالة، ولم يقدَحْ فيها بشيء، وأيضاً فَيَقْوى ذلك على القول بواوِ الثمانية؛ لأنها إِنما تكون حيث عدد الثمانية صحيحٌ. وقوله سبحانه: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظاهرا} معناه على بعض الأقوال: أي: بظاهر ما أوحينا إِليك، وهو ردُّ علْمِ عدتهم إِلى اللَّه تعالى، وقيل: معنى الظاهر؛ أنْ يقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا يحتجّ هو على أمر مقرَّر في ذلك، وقال التِّبْرِيزِيُّ: {ظَاهِراً} معناه: ذاهباً وأنشد: [الطويل] .................................... *** وَتلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا ولم يبح له في هذه الآية أن يماري، ولكن قوله: {إِلاَّ مِرَآءً} مجازٌ من حيث يماريه أهْلُ الكتاب، سمِّيت مراجعته لهم مِرَاءً، ثم قيد بأنه ظاهرٌ، ففارَقَ المراءَ الحقيقيَّ المذمومَ، و«المِرَاء»: مشتقٌّ من المِرْية، وهو الشكُّ، فكأنه المُشَاكَكَة. * ت *: وفي سماع ابن القاسمِ، قال: كان سليمان بن يَسَارٍ، إِذا ارتفع الصوْتُ في مجلسه، أو كانِ مَراءً، أخذ نعليه، ثم قام. قال ابنُ رُشْد: هذا مِنْ وَرَعه وفَضْله، و«المِرَاء» في العِلْم منهيٌّ عنه، فقد جاء أنه لا تُؤْمَنُ فتنته، ولا تفهم حِكْمته انتهى من «البيان». والضمير في قوله: {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِم} عائد على أهل الكَهْف، وفي قوله: {مِّنْهُمْ} عائدٌ على أهْل الكتاب. وقوله: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ}، أي: في عدَّتهم.
|